فصل: قال النسفي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخازن:

قوله عزّ وجلّ: {اقرأ باسم ربك} قيل الباء زائدة مجازه اقرأ اسم ربك، والمعنى اذكر اسم ربك أمر أن يبتدئ القراءة باسم الله تأديبًا، وقيل الباء على أصلها والمعنى اقرأ القرآن مفتتحًا باسم ربك أي قل بسم الله، ثم اقرأ فعلى هذا يكون في الآية دليل على استحباب البداءة بالتسمية في أول القراءة، وقيل معناه اقرأ القرآن مستعينًا باسم ربك على ما تتحمله من النبوة وأعباء الرّسالة {الذي خلق} يعني جميع الخلائق وقيل الذي حصل منه الخلق واستأثر به لا خالق سواه وقيل الذي خلق كل شيء.
{خلق الإنسان} يعني آدم وإنما خص الإنسان بالذكر من بين سائر المخلوقات لأنه أشرفها، وأحسنها خلقه {من علق} جمع علقة ولما كان الإنسان اسم جنس في معنى الجمع جمع العلق ولمشاكله رؤوس الآي أيضًا {اقرأ} كرره تأكيدًا وقيل الأول اقرأ في نفسك، والثاني اقرأ للتبليغ وتعليم أمتك ثم استأنف.
فقال تعالى: {وربك الأكرم} يعني الذي لا يوازيه كريم ولا يعادله في الكرم نظير وقد يكون الأكرم بمعنى الكريم كما جاء الأعز بمعنى العزيز، وغاية الكريم إعطاؤه الشيء من غير طلب العوض، فمن طلب العوض فليس بكريم، وليس المراد أن يكون العوض عينًا بل المدح والثّواب عوض والله سبحانه وجلَّ جلاله وتعالى علاؤه وشأنه يتعالى عن طلب العوض ويستحيل ذلك في وصفه لأنه أكرم الأكرمين، وقيل {الأكرم} هو الذي له الابتداء في كل كرم وإحسان وقيل هو الحليم عن جهل العباد فلا يعجل عليهم بالعقوبة، وقيل يحتمل أن يكون هذا حثًا على القراءة، والمعنى اقرأ وربك الأكرم لأنه يجزي بكل حرف عشر حسنات {الذي علم بالقلم} أي الخط والكتابة التي بها تعرف الأمور الغائبة وفيه تنبيه على فضل الكتابة لما فيها من المنافع العظيمة لأن بالكتابة ضبطت العلوم، ودونت الحكم وبها عرفت أخبار الماضين، وأحوالهم وسيرهم ومقالاتهم ولولا الكتابة ما استقام أمر الدين والدنيا قال قتادة: القلم نعمة من الله عظيمة.
لولا القلم لم يقم دين ولم يصلح عيش، فسأل بعضهم عن الكلام، فقال ربح لا يبقى قيل له فما قيده قال الكتابة لأن القلم ينوب عن اللّسان ولا ينوب اللّسان عنه {علم الإنسان ما لم يعلم} قيل يحتمل أن يكون المراد {علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم}، فيكون المراد من ذلك معنى واحدًا، وقيل علمه من أنواع العلم، والهداية، والبيان، ما لم يكن يعلم، وقيل علم آدم الأسماء كلها، وقيل المراد بالإنسان هنا محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله عزّ وجلّ: {كلا} أي حقًا {إن الإنسان ليطغى} أي يتجاوز الحد، ويستكبر على ربه {أن} أي لأن {رآه استغنى} أي رأى نفسه غنيًا وقيل يرتفع عن منزلته إلى منزلة أخرى في اللّباس والطعام وغير ذلك، نزلت في أبي جهل وكان قد أصاب مالًا فزاد في ثيابه ومركبه وطعامه فذلك طغيانه {إن إلى ربك الرجعى} أي المرجع في الآخرة وفيه تهديد، وتحذير لهذا الإنسان من عاقبة الطغيان، ثم هو عام لكل طاغ متكبر.
{أرأيت الذي ينهى عبدًا إذا صلى} نزلت في أبي جهل وذلك أنه نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصّلاة عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم، فقيل نعم فقال واللاّت والعزّى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته، ولأعفرن وجهه في التراب قال فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ليطأ على رقبته قال فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه، فقيل له ما لك قال إن بيني وبينه خندقًا من نار وهولًا وأجنحة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا». فأنزل الله هذه الآية، لا أدري في حديث أبي هريرة أو شيء بلغه {كلا إن الإنسان ليطغى} إلى قوله: {كلا لا تطعه} قال: وأمره بما أمره به زاد في رواية، {فليدع ناديه} يعني قومه عن ابن عباس قال قال أبو جهل لئن رأيت محمدًا يصلي عند البيت لأطأن على عنقه.
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «لو فعله لأخذته الملائكة»، زاد التّرمذي عيانًا ومعنى {أرأيت} تعجبًا للمخاطب وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم وفائدة التنكير في قوله: {عبدًا} تدل على أنه كامل العبودية، والمعنى أرأيت الذي ينهى أشد الخلق عبودية عن العبودية، وهذا دأبه وعادته، وقيل إن هذا الوعيد يلزم لكل من ينهى عن الصلاة عن طاعة الله تعالى، ولا يلزم منه عدم جواز المنع من الصّلاة في الدّار المغصوبة، وفي الأوقات المكروهة لأنه قد ورد النهي عن ذلك في الأحاديث الصّحيحة، ولا يلزم من ذلك أيضًا عدم جواز منع المولى عبده، والرجل زوجته عن قيام الليل، وصوم التّطوع والاعتكاف لأن ذلك استيفاء مصلحة إلا أن يأذن فيه المولى أو الزوج {أرأيت إن كان على الهدى} يعني العبد المنهي وهو النبي صلى الله عليه وسلم {أو أمر بالتقوى} يعني في الإخلاص والوحيد {أرأيت إن كذب} يعني أبا جهل {وتولى} أي عن الإيمان وتقدير نظم الآية أرأيت الذي ينهي عبدًا إذا صلى وهو على الهدى آمر بالتقوى والنّاهي مكذب متول عن الإيمان أي أعجب من هذا {ألم يعلم} يعني أبا جهل {بأن الله يرى} يعني يرى ذلك الفعل فيجازيه به، وفيه وعيد شديد وتهديد عظيم {كلا} أي لا يعلم ذلك أبو جهل {لئن لم ينته} يعني عن إيذاء محمد صلى الله عليه وسلم وعن تكذيبه {لنسفعًا بالناصية} أي لنأخذن بناصيته فلنجرنه إلى النّار، يقال سفعت بالشيء إذا أخذته وجذبته جذبًا شديدًا والناصية شعر مقدم الرأس والسفع الضرب أي لنضربن وجهه في النار، ولنسودن وجهه ولنذلنه ثم قال علي البدل {ناصية كاذبة خاطئة} أي صاحبها كاذب خاطئ.
قال ابن عباس: لما نهى أبو جهل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة انتهره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو جهل: أتنتهرني فوالله لأملأن عليك هذا الوادي إن شئت خيلًا جردًا، ورجالًا مردًا وعن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فجاءه أبو جهل فقال: ألم أنهك عن هذا؟ فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فزبره فقال أبو جهل إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني فأنزل الله تعالى: {فليدع ناديه سندع الزبانية} قال ابن عباس: والله لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله أخرجه التّرمذي، وقال حديث حسن غريب صحيح، ومعنى {فليدع ناديه} أي عشيرته وقومه فلينتصر بهم، وأصل النادي المجلس الذي يجمع الناس، ولا يسمى ناديًا ما لم يكن فيه أهله {سندع الزبانية} يعني الملائكة الغلاظ الشداد قال ابن عباس: يريد زبانية جهنم سموا بذلك لأنهم يدفعون أهل النّار إليها بشدة مأخوذ من الزّبن وهو الدفع {كلا} أي ليس الأمر على ما هو عليه أبو جهل {لا تطعه} أي في ترك الصّلاة {واسجد} يعني صل لله {واقترب} أي من الله عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا من الدعاء». وهذه السّجدة من عزائم سجود التلاوة عند الشّافعي فيسن للقارئ، والمستمع أن يسجد عند قراءتها يدل عليه ما روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في اقرأ باسم ربك وإذا السماء انشقت». أخرجه مسلم والله سبحانه وتعالى أعلم. اهـ.

.قال النسفي:

سورة العلق:
مكية.
وهي تسع عشرة آية.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عن ابن عباس ومجاهد: هي أول سورة نزلت.
والجمهور على أن الفاتحة أول ما نزل ثم سورة القلم {اقرأ باسم رَبّكَ الذي خلق} محل {باسم رَبّكَ} النصب على الحال أي اقرأ مفتتحًا باسم ربك كأنه قيل: قل باسم الله ثم اقرأ الذي خلق.
ولم يذكر الخلق مفعولًا لأن المعنى الذي حصل منه الخلق واستأثر به لا خالق سواه، أو تقديره خلق كل شيء فيتناول كل مخلوق لأنه مطلق فليس بعض المخلوقات بتقديره أولى من بعض.
وقوله: {خلق الإنسان} تخصيص للإنسان بالذكر من بين ما يتناوله الخلق لشرفه ولأن التنزيل إليه، ويجوز أن يراد الذي خلق الإنسان إلا أنه ذكر مبهمًا ثم مفسرًا تفخيمًا لخلقه ودلالة على عجيب فطرته {مِنْ علق} وإنما جمع ولم يقل من علقة لأن الإنسان في معنى الجمع {اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم} الذي له الكمال في زيادة كرمه على كل كريم ينعم على عباده النعم ويحلم عنهم، فلا يعاجلهم بالعقوبة مع كفرهم وجحودهم لنعمه، وكأنه ليس وراء التكرم بإفادة الفوائد العلمية تكرم حيث قال: {الذى عَلَّمَ} الكتابة {بالقلم عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يعلم} فدل على كمال كرمه بأنه علم عباده ما لم يعلموا ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ونبه على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة، وما دونت العلوم ولا قيدت الحكم ولا ضبطت أخبار الأولين ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة، ولولا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا، ولو لم يكن على دقيق حكمة الله دليل إلا أمر القلم والخط لكفى به.
{كَلاَّ} ردع لمن كفر بنعمة الله عليه بطغيانه وإن لم يذكر لدلالة الكلام عليه {إِنَّ الإنسان ليطغى} نزلت في أبي جهل إلى آخر السورة {أَن رَّءاهُ} أن رأى نفسه.
يقال في أفعال القلوب: رأيتني وعلمتني، ومعنى الرؤية العلم ولو كانت بمعنى الإبصار لامتنع في فعلها الجمع بين الضميرين {استغنى} هو المفعول الثاني {إِنَّ إلى رَبّكَ الرجعى} تهديد للإنسان من عاقبة الطغيان على طريق الالتفات.
و{الرجعى} مصدر بمعنى الرجوع أي إن رجوعك إلى ربك فيجازيك على طغيانك {أَرَءيْتَ الذي ينهى عَبْدًا إِذَا صلى} أي أرأيت أبا جهل ينهى محمدًا عن الصلاة {أَرَءيْتَ إِن كَانَ على الهدى} أي إن كان ذلك الناهي على طريقة سديدة فيما ينهى عنه من عبادة الله {أَوْ أَمَرَ بالتقوى} أو كان آمرًا بالمعروف والتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقد {أَرَءيْتَ إِن كَذَّبَ وتولى} أرأيت إن كان ذلك الناهي مكذبًا بالحق متوليًا عنه كما نقول نحن {أَلَمْ يعلم بِأَنَّ الله يرى} ويطلع على أحواله من هداه وضلاله فيجازيه على حسب حاله، وهذا وعيد وقوله: {الذى ينهى} مع الجملة الشرطية مفعولا {أَرَأَيْتَ} وجواب الشرط محذوف تقديره: إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى ألم يعلم بأن الله يرى؟ وإنما حذف لدلالة ذكره في جواب الشرط الثاني وهذا كقولك: إن أكرمتك أتكرمني؟ و{أَرَأَيْتَ} الثانية مكررة زائدة للتوكيد.
{كَلاَّ} ردع لأبي جهل عن نهيه عن عبادة الله وأمره بعبادة الأصنام.
ثم قال: {لئن لم ينته} عما هو فيه {لَنَسْفَعًا بالناصية} لنأخذن بناصيته ولنسحبنه بها إلى النار، والسفع: القبض على الشيء وجذبه بشدة، وكتبها في المصحف بالألف على حكم الوقف، واكتفى بلام العهد عن الإضافة للعلم بأنها ناصية المذكور {نَاصِيَةٍ} بدل من {الناصية} لأنها وصفت بالكذب والخطأ بقوله: {كاذبة خاطئة} عن الإسناد المجازي وهما لصاحبها حقيقة وفيه من الحسن والجزالة ما ليس في قولك (ناصية كذاب خاطئ) {فَلْيَدْعُ ناديه سَنَدْعُ الزبانية} النادي المجلس الذي يجتمع فيه القوم، والمراد أهل النادي.
روي أن أبا جهل مر بالنبي عليه السلام وهو يصلي فقال: ألم أنهك فأغلظ له رسول الله عليه السلام فقال: أتهددني وأنا أكثر أهل الوادي ناديًا فنزل.
والزبانية لغة الشرط الواحد زبنية من الزبن وهو الدفع، والمراد ملائكة العذاب وعنه عليه السلام: «لو دعا ناديه لأخذته الزبانية عيانًا».
{كَلاَّ} ردع لأبي جهل {لاَ تُطِعْهُ} أي أثبت على ما أنت عليه من عصيانه كقوله: {فَلاَ تُطِعِ المكذبين} [القلم: 8] {واسجد} ودم على سجودك يريد الصلاة {واقترب} وتقرب إلى ربك بالسجود فإن أقرب ما يكون العبد إلى ربه إذا سجد كذا الحديث والله أعلم. اهـ.

.قال ابن جزي:

سورة العلق:
{اقرأ باسم رَبِّكَ} فيه وجهان:
أحدهما: أن معناه اقرأ القرآن مفتتحًا باسم ربك، أو متبركًا باسم ربك، وموضع باسم ربك نصب على الحال ولذا كان تقديره: مفتتحًا، فيحتمل أن يريد ابتدأ القراءة بقول: بسم الله الرحمن الرحيم أو يريد الابتداء باسم الله مطلقًا، والوجه الثاني أن معناه اقرأ هذا اللفظ وهو باسم ربك الذي خلق فيكون {باسم ربك} مفعولًا وهو المقروء {الذي خلق} حذف المفعول لقصد العموم كأنه قال: الذي خلق كل شيء، ثم خصص خلقة الإنسان لما فيه من العجائب والعبر، ويحتمل أنه أراد الذي خلق الإنسان كما قال: {الرحمن عَلَّمَ القرآن خلق الإنسان} [الرحمن: 13] ثم فسره بقوله: {خلق الإنسان مِنْ علق} والعلق جمع علقة، وهي النطفة من الدم والمراد بالإنسان هنا جنس بني آدم، ولذلك جمع العلق لما أراد الجماعة ولم يدخل آدم في الإنسان هنا لأنه لم يخلق من علقة وإنما خلق من طين {اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم} كرر الأمر بالقراءة تأكيدًا والواو للحال والمقصود تأنيس النبي صلى الله عليه وسلم كأنه يقول: أفعل ما أمرت به فإن ربك كريم. وصيغة أفعل للمبالغة {الذى عَلَّمَ بالقلم} هذا تفسير للأكرم فدل على أن نعمة التعليم أكبر نعمة، وخص من التعليمات الكتابة بالقلم لما فيها من تخليد العلوم ومصالح الدين والدنيا.
وقرأ ابن الزبير: {علم الخط بالقلم}.
{عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يعلم} يحتمل أن يريد بهذا التعليم لكل شيء على الاطلاق، وقيل: لأن الإنسان هنا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والأظهر أنه جنس الإنسان على العموم.
{كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى} نزل هذا وما بعده إلى آخر السورة في أبي جهل بعد نزول صدرها بمدة، وذلك أنه كان يغطى بكثرة ماله ويبالغ في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم، وكلا هنا يحتمل أن تكون زجرًا لأبي جهل أو بمعنى حقًا أو استفتاحًا {أَن رَّآهُ استغنى} في موضع المفعول من أجله، أي يطغى من أجل غناه. والرؤية هنا بمعنى العلم، بدليل إعمال الفعل في الضمير، ولا يكون ذلك إلا في أفعال القلوب، والمعنى رأى نفسه استغنى و{استغنى} هو المفعول الثاني {إِنَّ إلى رَبِّكَ الرجعى} هذا تهديد لأبي جهل وأمثاله {أَرَأَيْتَ الذي ينهى عَبْدًا إِذَا صلى} اتفق المفسرون أن العبد الذي صلى هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الذي نهاه أبو جهل لعنه الله، وسبب الآية أن أبا جهل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي في المسجد الحرام فهم أن يصل إليه ويمنعه من الصلاة. وروي أنه قال: لئن رأيته يصلي، لأطأنّ عنقه، فجاءه وهو يصلي ثم انصرف عنه مرعوبًا فقيل له: ما هذا؟ فقال: لقد اعترض بيني وبينه خندق من نار وهول وأجنحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا».
{أَرَأَيْتَ إِن كَانَ على الهدى أَوْ أَمَرَ بالتقوى} أرأيت في الموضوع الذي قبله والذي بعده بمعنى: أخبرني؛ فكأنه سؤال يفتقر إلى جواب وفيها معنى التعجيب والتوقيف والخطاب فيها يحتمل أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم، أو لكل مخاطب من غير تعيين، وهي تتعدى إلى مفعولين وجاءت بعدها إن الشرطة في موضعين وهما قوله: {إِن كَانَ على الهدى} وقوله: {إِن كَذَّبَ وتولى} فيحتاج إلى كلام في مفعولي {أرأيت} في المواضع الثلاثة، وفي جواب الشرطين وفي الضمائر المتصلة بهذه الأفعال، وهي {إن كان على الهدى}، و{أمر بالتقوى} و{كذب وتولى}، على من تعود هذه الضمائر؟ فقال الزمخشري: إن قوله: {الذي ينهى} هو المفعول الأول لقوله: {أرأيت} الأولى وأن الجملة الشرطية بعد ذلك في موضع المفعول الثاني، وكررت {أرأيت} بعد ذلك للتأكيد فهو زائدة لا تحتاج إلى مفعول وإن قوله: {ألم يعلم بأن الله يرى} هو جواب قوله: {إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى} للذي نهى عن الصلاة وهو أبو جهل، وكذلك الضمير في قوله: {إن كذب وتولى} وتقديره الكلام على هذا: أخبرني عن الذي ينهى عبدًا إذا صلى، إن كان هذا الناهي على الهدى أو كذب وتولى؟ {ألم يعلم بأن الله يرى} جميع أحواله من هداه وضلاله وتكذيبه ونهيه عن الصلاة وغير ذلك؟ فمقصود الآية تهديد له وزجر وإعلام بأن الله يراه.
وخالفه ابن عطية في الضمائر فقال: إن الضمير في قوله: {إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى} للعبد الذي صلى، وأن الضمير في قوله: {إن كذب وتولى} للذي نهى عن الصلاة، وخالفه أيضًا في جعله {أرأيت} الثانية مكررة للتأكيد وقال: إنها في المواضع الثلاثة توقيف وأن جوابه في المواضع الثلاثة قوله: {أَلَمْ يعلم بِأَنَّ الله يرى} يصلح مع كل مع واحد منها، ولكنه جاء في آخر الكلام اختصارًا.
وخالفهما أيضًا الغزنوي في الجواب فقال: إن جواب قوله: {إن كان على الهدى} محذوف فقال: إن تقديره إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى أليس هو على الحق واتباعه واجب، والضمير على هذا يعود على العبد الذي صلى وفاقًا لابن عطية.
{لئن لم ينته لَنَسْفَعًا بالناصية} أوعد أبا جهل إن لم ينته عن كفره وطغيانه أن يؤخذ بناصيته فيلقى في النار، والناصية مقدم الرأس فهو كقوله: {فَيُؤْخَذُ بالنواصي والأقدام} [الرحمن: 41] والسفع هنا الجذب والقبض على الشيء، وقيل: هو الإحراق من قولك سفعته النار وأكد لنسفعن باللام والنون الخفيفة، وكتبت في المصحف بالألف مراعاة للوقف، ويظهر لي أن هذا الوعيد نفذ عليه يوم بدر حين قتل وأخذ بناصيته فجرّ إلى القليب {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خاطئة} أبدل {ناصية} من الناصية، ووصفها بالكذب والخطيئة تجوزًا، والكاذب الخاطئ في الحقيقة صاحبها، والخاطئ الذي يفعل الذنب معتمدًا، والمخطئ الذي يفعله بغير قصد {فَلْيَدْعُ ناديه} النادي والنّدي المجلس الذي يجتمع فيه الناس، وكان أبو جهل قد قال: أيتوعدني محمد فوالله ما بالوادي أعظم ناديًا مني، فنزلت الآية تهديدًا وتعجيزًا له، والمعنى: فليدع أهل ناديه لنصرته إن قدروا على ذلك، ثم أوعده بأن يدعو له زبانية جهنم، وهم الملائكة الموكلون بالعذاب، الزبانية في اللغة واحدهم زبنية، وقيل: زبني وفي الحديث: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لو دعا ناديه لأخذته الزبانية عيانًا».
{واسجد واقترب} أي تقرب إلى الله بالسجود كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» فاجتهدوا في الدعاء وهذا موضع سجدة عند الشافعي وليست عند مالك من عزائم السجود. اهـ.